الباب الأول حاجة أمتنا إلى فقه الأولويات
تمهيد
من المفاهيم المهمة في فقهنا اليوم : ما نبهت عليه في عدد من كتبي، وهو ما أسميته ( فقه الأولويات) وكنت أطلقت عليه قبل - وخصوصًا في كتابي : ( الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف ) - ( فقه مراتب الأعمال ). وأعني به : وضع كل شيء في مرتبته بالعدل، من الأحكام والقِيَم والأعمال، ثم يُقدِّم الأَوْلى فالأَوْلى، بناءً على معايير شرعية صحيحة يهدي إليها . نور الوحي، ونور العقل: ( نورٌ على نورٍ) (النور: )35 فلا يقدم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح الراجح، ولا المفضول على الفاضل، أو الأفضل.
بل يقدم ما حقه التقديم، ويُؤخِّر ما حقه التأخير، ولا يُكبِّر الصغير، ولا يُهوِّن الخطير، بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم، بلا طغيان ولا إخسار، كما قال تعالى: (وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ . أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ . وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) (الرحمن: 7 )
وأساس هذا : أن القيم والأحكام والأعمال والتكاليف متفاوتة في نظر الشرع تفاوتًا بليغًا، وليست كلها في رتبة واحدة، فمنها الكبير ومنها الصغير، ومنها الأصلي ومنها الفرعي، ومنها الأركان ومنها المكملات، ومنها ما موضعه في الصلب، وما موضعه في الهامش، وفيها الأعلى والأدنى والفاضل والمفضول.
وهذا واضح من النصوص نفسها، كما في قول الله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة: )19
وقول الرسول الكريم : (الإيمان بِضْع وسبعون ُ شعْبة : أعلاها "لا إله إلا الله "، وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق).
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم حريصين كل الحرص على أن يعرفوا الأَوْلى من الأعمال، ليتقرَّبوا إلى الله تعالى به، ولهذا كثرت أسئلتهم عن أفضل العمل، وعن أحب الأعمال إلى الله تعالى، كما في سؤال ابن مسعود وأبى ذر وغيرهما، وجواب النبي (صلى الله عليه وسلم ).
ولذا كثر في الأحاديث: أفضل الأعمال كذا، أو أحب الأعمال إلى الله كذا وكذا.
وأكتفي هنا بذكر حديث واحد: عن عمرو بن عَبَسة -رضي الله عنه - قال : قال رجل :يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال : (أن يسلم لله قلبك، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك؟ قال : فأيّ الإسلام أفضل؟ قال : (الإيمان)، قال : وما الإيمان؟ قال : (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت ) قال: فأيّ الإيمان أفضل؟ قال : (الهجرة)، وقال : وما الهجرة؟ قال (أن تهجر السُّوء )، قال : فأي الهجرة أفضل؟ قال : (الجهاد)، قال : وما الجهاد؟ قال (أن تقاتل الكفار إن لقيتهم )، قال : فأي الجهاد أفضل؟ قال: (من عُقر جواده وأُهريق دمه).
ومن تتبع ما جاء في القرآن الكريم، ثم ما جاء في السنة المطهرة في هذا المجال، جوابًا عن سؤال، أو بيانً الحقيقة، رأى أنها قد وضعت أمامنا جملة معايير لبيان الأفضل والأولى والأحب إلى الله تعالى من الأعمال والقيم والتكاليف، وبيان ما بينها من تفاوت كبير، وذكرت بعض الأحاديث نسبة، مثل (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ (الفرد) بسبع وعشرين درجة)، (سبق درهم مائة ألف درهم )، (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه )، (إن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا).
وفي الجانب المقابل وضعت معايير لبيان الأعمال السيئة، كما بينت تفاوتها عند الله، من كبائر وصغائر، وشبهات ومكروهات، وذكرت أحيانًا بعض النسب بين بعضها وبعض، مثل (درهم ربا يأكله الرجل، وهو يعلم، أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية).
وحذَّرت من أعمال اعتبرها شرًا من غيرها، وأسوأ مما سواها، مثل حديث: (شر ما في
الرجل، شُحٌ هالع وجُبنٌ خالع).
(شر الناس: الذي يسأل بالله، ثم لا يعطي).
(شرار أُمتي: الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، وخيار أُمتي: أحاسنهم أخلاقًا).
(أسرق الناس : الذي يسرق صلاته، لا يتم ركوعها ولا سجودها، وأبخل الناس : مَن بخل بالسلام).
كما بيَّن القرآن أن الناس ليسوا متساوين في منازلهم، وإن كانوا متساوين في إنسانيتهم بأصل الخِْلقة، وإنما هم متفاوتون بعلومهم وأعمالهم تفاوتًا بعيدًا.
يقول القرآن : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)
(... هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ...) (الزمر:9)
(لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيما) (وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحَرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) وهكذا نجد أن الناس يتفاوتون ويتفاضلون، كما تتفاوت الأعمال وتتفاضل، ولكن تفاضلهم إنما هو بالعلم والعمل والتقوى والجهاد.
1. إختلال ميزان الأولويات في الأمة
من نظر إلى حياتنا في جوانبها المختلفة - مادية كانت أو معنوية، فكرية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو غيرها - وجد ميزان الأولويات فيها مختلا كل الاختلال .
نجد في كل أقطارنا العربية والإسلامية مفارقات عجيبة:
ما يتعلق بالفن والترفيه مُقدَّم أبدًا على ما يتعلق بالعلم والتعليم.
وفي الأنشطة الشبابية : نجد الاهتمام برياضة الأبدان مُقدَّمًا على الاهتمام برياضة العقول، وكأن معنى رعاية الشباب : رعاية الجانب الجسماني فيهم لا غير، فهل الإنسان بجسمه أو بعقله ونفسه؟
كنا نحفظ قديمًا من قصيدة أبى الفتح البستي الشهيرة:
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران؟
أقبل على النفس، واستكمل فضائلها فأنت بالنفس - لا بالجسم – إنسان!
وقبله حفظنا عن زهير بن أبي سلمة في معلقته:
لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم!
ولكننا نرى اليوم: أن الإنسان بلحمه وعضلاته قبل كل شيء.
وفي الصيف الماضي (سنة 1993 ) لم يكن لمصر كلها حديث، إلا عن اللاعب الذي (يُعرَض) للبيع، وارتفع سعره في سوق المساومة بين الأندية حتى بلغ نحو ثلاثة أرباع المليون من الجنيهات!
وليتهم اهتموا بكل أنوع الرياضة، وخصوصًا التي ينتفع بها جماهير الناس في حياتهم اليومية، إنما اهتموا برياضة المنافسات، وبخاصة كرة القدم ، التي يلعب فيها عدة أفراد، وسائر الناس متفرجون!!
إن نجوم المجتمع، وألمع الأسماء فيه، ليسوا هم العلماء ولا الأدباء، ولا أهل الفكر أو الدعوة ، بل هم الذين يسمونهم ( الفنانين والفنانات ) ولاعبو الكرة ، وأمثالهم .
الصحف والمجلات، والتليفزيونات والإذاعات، لا حديث لها إلا عن هؤلاء وأعمالهم
(وبطولاتهم ) ومغامراتهم وأخبارهم مهما تكن تافهة، أما غيرهم فهم في ظل الظل، بل في أودية الصمت والنسيان.
يموت الفنان، فترجّ الأرض لموته، وتمتلئ أنهار الصحف بالحديث عنه.
ويموت العالم أو الأديب أو الأستاذ الكبير ، فلا يكاد يحس به أحد!
وفي الجانب المالي : ُترصد المبالغ الهائلة ، والأموال الطائلة للرياضة والفن ورعاية الإعلام وحماية أمن الحاكم، الذي يسمونه زورًا ( أمن الدولة ) ولا يستطيع أحد أن يعارض أو يحاسب: لِمَ هذا كله؟
في حين تشكو الجوانب التعليمية والصحية والدينية والخدمات الأساسية، من التقتير عليها، وادعاء العجز والتقشف إذا طلبت بعض ما تريد لتطوير نفسها، ومواكبة عصرها، فالأمر كما قيل : تقتير هنا، وإسراف هناك ! على نحو ما قاله ابن المقفع قديمًا: ما رأيت إسرافًا إلا وبجانبه حق مضيع!
2. إخلال المتدينين اليوم بفقه الأولويات
ولا يقف الإخلال بالأولويات ال يوم عند جماهير المسلمين، أو المنحرفين منهم ، بل الإخلال واقع من المنتسبين إلى التدين ذاته ، لفقدان الفقه الرشيد، والعلم الصحيح .
إن العلم هو الذي يبين راجح الأعمال من مرجوحها، وفاضلها من مفضولها، كما يبين
صحيحها من فاسدها، ومقبولها من مردودها، ومسنونها من مبتدعها، ويعطي كل عمل " سعره " وقيمته في نظر الشرع.
وكثيرًا من نجد الذين حُرموا نور العلم ورشد الفقه، يذيبون الحدود بين الأعمال فلا تتمايز، أو يحكمون عليها بغير ما حكم الشرع، فيُْفرطون أو يَفرطون، وهنا يضيع الدين بين الغالي فيه والجافي عنه.
وكثير ما رأينا مثل هؤلاء - مع إخلاصهم - يشتغلون بمرجوح العمل، ويدعون راجحه،
وينهمكون في المفضول، ويغفلون الفاضل.
وقد يكون العمل الواحد فاض ً لا في وقت مفضولا في وقت آخر، راجحًا في حال مرجوحًا في آخر، ولكنهم - لقلة علمهم وفقههم - لا يفرقون بين الوقتين، ولا يميزون بين الحالين.
رأيت من المسلمين الطيبين في أنفسهم من يتبرع ببناء مسجد في بلد حافل بالمساجد، قد يتكلف نصف مليون أو مليونًا أو أكثر من الجنيهات أو الدولارات، فإذا طالبته ببذل مثل هذا المبلغ أو نصفه أو نصف نصفه في نشر الدعوة إلى الإسلام، أو مقاومة الكفر والإلحاد، أو في تأييد العمل الإسلامي لإقامة الشرع وتمكين الدين، أو نحو ذلك من الأهداف الكبيرة التي قد تجد الرجال ولا تجد المال، فهيهات أن تجد أذنًا صاغية، أو إجابة ملبية، لأنهم يؤمنون ببناء الأحجار، ولا يؤمنون ببناء الرجال!.
وفي موسم الحج من كل عام أرى أعدادًا غفيرًة من ا لمسلمين الموسرين يحرصون على شهود الموسم متطوعين، وكثيرًا ما يضيفون إليه العُمرة في رمضان، ينفقون في ذلك عن سخاء، وقد يصطحبون معهم أناسًا من الفقراء على نفقتهم، وما كلَّف الله بالحج ولا العُمرة هؤلاء .
فإذا طالبتهم ببذل هذه النفقات السنوية ذاتها لمحاربة اليهود في فلسطين، أو الصرب في
البوسنة والهرسك، أو لمقاومة الغزو التنصيري في إندونيسيا، أو بنجلاديش، أو غيرها من بلاد آسيا وإفريقيا، أو إنشاء مركز للدعوة، أو تجهيز دعاة متخصصين متفرغين، و تأليف أو ترجمة ونشر كتب إسلامية نافعة، لوَّوْا رؤوسهم، ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون. هذا مع أن الثابت بوضوح في القرآن الكريم أن جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج . كما قال تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{19} الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ{20} يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ) (التوبة: 19)
هذا مع أن حجهم واعتمارهم من باب التطوع والتنفل، أما جهاد الكفر والإلحاد والعَلمانية والتحلل، وما يسندها من قوى داخلية وخارجية، فهو الآن فريضة العصر . وواجب اليوم .
ومنذ ما يقرب من سنتين قبل موسم الحج، كتب صديقنا الكاتب الإسلامي المعروف الأستاذ فهمي هويدي، في مقال الثلاثاء الأسبوعي، يقول للمسلمين بصراحة : إن إنقاذ البوسنة مقدَّم على فريضة الحج!.
وقد سألني كثيرون ممن قرأوا المقال عن مدى صحة هذا الكلام من الناحية الشرعية والفقهية .
وقلت لهم حينذاك : إن لكلام الكاتب وجهًا صحيحًا ومعتبرًا من ناحية الفقه، فإن من المقرر شرعًا: أن الواجبات المطلوبة فورًا مقدَّمة على الواجبات التي تحتمل التأخير . وفريضة الحج تحتمل التأخير، وهو واجب على التراخي عند بعض الأئمة . أما إنقاذ البوسنة من هلاك الجوع والبرد والمرض من ناحية، ومن خطر الإبادة الجَماعية التي ُتحضَّر لها من ناحية أخرى، فهي فريضة فورية ناجزة، لا تقبل التأخير، ولا تحتمل التراخي، فهي فريضة الوقت، وواجب اليوم على الأمة الإسلامية كلها.
ولا ريب أن إقامة شعيرة الحج، وعدم تعطيل الموسم فريضة أيضًا لا نزاع فيها، ولكنها تتم بأهل الحرمين ومن حولهم ممن لا يكلفهم الحج كثيرًا من النفقات.
ومع هذا أرى أن ما قصد إليه الأستاذ هويدي يمكن أن يتحقق بما دون هذا . فإذا أكثر الذين يزحمون موسم الحج كل عام هم من الذين أسقطوا عنهم الفريضة وحجوا من قبل . والذين لم يحجوا قبل ذلك لا يكوِّنون من مجموع الحجيج أكثر من 15 % فإذا كان الحجاج نحو مليونين( 000 ر 000 ر 2 ) فإن الذين يحجون منهم - عادة - لأول مرة، لا يزيدون غالبًا عن ثلاثمائة ألف ( 000 ر 300) !
فليت الذين يتطوعون بالحج - وهم الأكثرية ! - ومثلهم الذين يتطوعون بالعمرة طوال العام، وخصوصًا في شهر رمضان، يتنازلون عن حجهم وعمرتهم، ويبذلون نفقاتهما في سبيل الله، أي في إنقاذ إخوانهم المسلمين والمسلمات، الذين يتعرضون للهلاك المادي والمعنوي، وللعدوان الغاشم، الذي يستبيح كل حرماتهم، ولا يريد أن يبقي لهم من باقية، والعاَلم المتقدم يرى ويسمع، ولا يحرك ساكنًا ! لأن الغلبة لحق القوة، وليس لقوة الحق!!.
ولقد عرفت بعض المتدينين الطيبين في قطر، وفي غيرها من بلاد الخليج، وفي مصر،
يحرصون غاية الحرص على أداء شعيرة الحج كل عام، وأعرف بعضهم يحج سنويًا منذ
أربعين سنة، وهم مجموعة كبيرة من الأقارب والأصدقاء والشركاء، ربما يصلون إلى مائة شخص . وقد ذكرت لهم في سنة ما، وكنت حاضرًا لتوي من إندونيسيا، وشاهدت ما يصنعه التنصير هناك من أعمال هائلة، وحاجة المسلمين الماسة إلى مؤسسات مقابلة، تعليمية وطبية واجتماعية . . وقلت لهؤلاء الإخوة الطيبين : ما رأيكم لو نويتم هذا العام ترك الحج، والتبرع بنفقاته لمقاومة التنصير، (100 شخص كل شخص يتكلف 000 ر 10 جنيه = ( 000 ر 000 ر 1) لمليون جنيه، يمكن أن تكون نواة قوية لمشروع كبير، ولعلنا لو بدأنا مثل هذا العمل وأعلناه لقلَّدنا آخرون، فكان لنا أجر من تبعنا.
ولكن الإخوة قالوا : إننا كلما جاء ذو الحِجَّة أحسسنا برغبة - لا نستطيع مقاومتها – للحج والمناسك، ونحس بأرواحنا تحلِّق هناك، ونشعر بسعادة غامرة كلَّما شهدنا الموسم مع الشاهدين.
وهذا ما قاله من قاله لبِشر الحافي من قديم، ولو صح الفهم، وصدق الإيمان، وعرف المسلم معنى فقه الأولويات، لكان عليه أن يشعر بسعادة أكبر، وروحانية أقوى، كلما استطاع أن يقيم بنفقات الحج مشروعًا إسلاميًا، يكفل الأيتام، أو يطعم الجائعين، أو يؤوي المشردين، أو يعالج المرضى، أو يُعلِّم الجاهلين، أو يُشغِّل العاطلين.
ولقد رأيت شبابًا مخلصين كانوا يدرسون في كليات جامعية في الطب، أو الهندسة، أو
الزراعة، أو الآداب، أو غيرها من الكليات النظرية، أو العملية، وكانوا من الناجحين بل
المتفوقين فيها، فما لبثوا إلا أن أداروا ظهورهم لكلياتهم، وودعوها غير آسفين، بحجة التفرغ للدعوة والإرشاد والتبليغ، مع أن عملهم في تخصصاتهم هو من فروض الكفاية، التي تأثم الأُمة جميعها إذا فرطت فيها، ويستطيعون أن يجعلوا من عملهم عبادة وجهادًا إذا أُدِّي بإتقان، وصحَّت فيه النية، والُتزِمت حدود الله تعالى.
ولو ترك كل مسلم مهنته فمنذا يقوم بمصالح المسلمين : ولقد بُعِث الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعملون في مهن شتَّى، فلم يطلب من أحدٍ منهم أن يدع مهنته ليتفرغ للدعوة، وبقي كل منهم في عمله وحرفته، سواء قبل الهجرة أم بعدها . فإذا دعا داعي الجهاد، واسُتْنفِروا، نفروا خفافًا وثقالا مجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله .
ولقد أنكر الإمام الغزالي على أهل زمنه توجُّه جمهور متعلميهم إلى الفقه ونحوه، على حين لا يوجد في البلد من بلدان المسلمين إلا طبيب يهودي أو نصراني، يوكل إليه علاج المسلمين والمسلمات، وتوضع بين يديه الأرواح والعورات، وتؤخذ عنه الأمور المتعلقة بالأحكام الشرعية، مثل جواز الفِطر للصائم، والتيمم للجريح!
ورأيت آخرين يقيمون معارك يومية يحمى وطيسها من أجل مسائل جزئية أو خلافية، مهملين معركة الإسلام الكبرى مع أعدائه الحاقدين عليه، والكارهين له، والطامعين فيه، والخائفين منه، والمتربصين به.
حتى الأقليات والجاليات التي تعيش هناك في ديار الغرب : في أمريكا وكندا وأوروبا، وجدت مَن جعلوا أكبر همهم : الساعة أين ٌتلبس، أفي اليد اليمنى أم اليسرى؟
ولبس الثوب الأبيض بدل " القميص والبنطلون " : واجب أم سُنَّة؟
ودخول المرأة في المسجد: حلال أم حرام؟
والأكل على المنضدة، والجلوس على الكرسي للطعام، واستخدام الملعقة والشوكة : هل يدخل في التشبه بالكفار أو لا؟
وغيرها . . وغيرها من المسائل التي تأكل الأوقات، وتمزق الجماعات، وتخلق الحزازات، وتضيع الجهود والجهاد، لأنها جهود في غير هدف، وجهاد مع غير عدو.
ورأيت فتيانًا ملتزمين متعبدين يعاملون آباءهم بقسوة، وأُمهاتهم بغلظة، وإخوانهم وأخواتهم بعنف، وحُجَّتهم أنهم عصاة أو منحرفون عن الدين، ناسين أن الله تعالى أوصى بالوالدين إحُسانًا، وإن كانا مشركين يجاهدان ولدهما على الشرك، ويحاولان بكل جهدهما فتنته عن إسلامه.
يقول تعالى : (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا ...) (لقمان: 15)
فرغم المحاولة المصرة من الأبوين، التي سماها القرآن مجاهدة على الشرك، أمر بمصاحبتهما بالمعروف، لأن للوالدين حقًا لا يفوقه إلا حق الله عز وجل، ولهذا قال تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) (لقمان: 14)
أما الطاعة لهما في الشرك فهي مرفوضة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأما
المصاحبة بالمعروف فلا مناص منها، ولا عذر في التخلي عنها .
كما أوصى تعالى بالأرحام وذوي القربى، كما قال تعالى : (وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا ) (النساء: 1)
ومما وقع فيه المسلمون في عصور الانحطاط ولا زال قائمًا إلى اليوم :
1- أنهم تركوا - إلى حد كبير - فروض الكفاية المتعلقة بمجموع الأُمة : كالتفوق العلمي
والصناعي والحربي، الذي يجعل الأمة مالكة لأمر نفسها وسيادتها حقًا وفعلا، لا دعوى وقولا . . ومثل الاجتهاد في الفقه واستنباط الأحكام، ومثل نشر الدعوة إلى الإسلام، ومثل إقامة الحكم الشورى القائم على البيعة والاختيار الحر، ومثل مقاومة السلطان الجائر، والمنحرف عن الإسلام، ناهيك بالمعادي له !
2- وأهملوا بعض الفرائض العينية، أو أعطوها دون قيمتها، مثل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي قدَّمها القرآن على الصلاة والزكاة في وصف مجتمع الإيمان . قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ...) (التوبة: 71 )، وجعلها السبب الأول في خيرية الأمة : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) (آل عمران : 110 ) ، وجعل إهمال هذه الفريضة عند بني إسرائيل سبيلا إلى لعنتهم على لسان أنبيائهم (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ . كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) (المائدة: 78 , 79)
3- واهتموا ببعض الأركان أكثر من بعض، فاهتموا بالصوم أكثر من الصلاة، فلهذا لم يكد يوجد مسلم مفطر في نهار رمضا ن ولا مسلمة . وخصوصًا في القرى والريف، ولكن وُجِد من المسلمين - والمسلمات خاصة - من يتكاسل عن الصلاة، ووُجِد من ينقضي عُمره دون أن ينحني لله راكعًا ساجدًا، كما أن أكثر الناس اهتموا بالصلاة أكثر مما اهتموا بالزكاة، مع أن الله تعالى قرن بينهما في كتابه الكريم في ( 28 ) موضعًا، حتى قال ابن مسعود : أُمرنا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومَن لم يزك فلا صلاة له !.
وقال الصِّدِّيق أبو بكر : والله لأُقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة ، وأجمع الصحابة على قتال مانعي الزكاة، كما قاتلوا أدعياء النبوة ومن اتبعهم من المرتدين، وكانت الدولة المسلمة أول دولة في التاريخ تقاتل من أجل حقوق الفقراء!
4- واهتموا ببعض النوافل أكثر من اهتمامهم بالفرائض والواجبات، كما هو ملاحظ عند كثيرمن المتدينين، الذين أكثروا من الأذكار والتسابيح والأوراد، ولم يولوا هذا الاهتمام لكثير من الفرائض، وخصوصًا الاجتماعية، مثل : بر الوالدين؟ وصلة الأرحام، والإحسان بالجار، والرحمة بالضعفاء، ورعاية اليتامى والمساكين، وإنكار المنكر، ومقاومة الظلم الاجتماعي والسياسي.
5- واهتموا بالعبادات الفردية، كالصلاة والذِكر، أكثر من اهتمامهم بالعبادات الاجتماعية التي يتعدى نفعها، كالجهاد، والفقه، والإصلاح بين الناس، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالصبر والمرحمة، والدعوة إلى العدل والشورى، ورعاية حقوق الإنسان عامة، والإنسان الضعيف خاصة.
6- وأخيرًا أهتم كثير من الناس بفروع الأعمال، وأهملوا الأصول، مع قول الأقدمين : من ضَّيع الأصول، حُرِم الوصول . وأغفلوا أساس البناء كله، وهو العقيدة والإيمان والتوحيد، وإخلاص الدين لله.
7- ومما وقع فيه الخلل والاضطراب : اشتغال كثير من الناس بمحاربة المكروهات، أو
الشبهات، أكثر مما اشتغلوا بحرب المحرَّمات المنتشرة، أو الواجبات المضيعة، ومثل ذلك : الاشتغال بما اختلف في حِلِّه وحُرمته عما هو مقطوع بتحريمه . وهناك أناس مولعون بهذه الخلافيات، مثل مسائل التصوير والغناء والنقاب ونحوها، وكأنما لا هم لهم إلا إدارة المعارك الملتهبة حولها، ومحاولة سَوْق الناس قسرا إلى رأيهم فيها، في حين هم غافلون عن القضايا المصيرية الكبرى التي تتعلق بوجود الأمة ومصيرها وبقائها على الخريطة .
ومن ذلك : انصراف الكثيرين إلى مقاومة الصغائر مع إغفال الكبائر الموبقات، سواء أكانت موبقات دينية، كالعرافة، والسحر، والكهانة، واتخاذ القبور مساجد، والنذر، والذبح للموتى، والاستعانة بالمقبورين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وكشف الكربات : ونحو ذلك مما كدر صفاء عقيدة التوحيد . أم موبقات اجتماعية وسياسية، مثل : ضياع الشورى، والعدالة الاجتماعية، وغياب الحرية، وحقوق الشعوب، وكرامة الإنسان، وتوسيد الأمر إلى غير أهله، وتزوير الانتخابات، ونهب ثروة الأمة، وإقرار الامتيازات الأسرية والطبقية، وشيوع السرف والترف المدمر.
هذا الخلل الكبير الذي أصاب أمتنا اليوم في معايير أولوياتها، حتى أصبحت ُتصغِّر الكبير، وُتكبِّر الصغير، وُتعظِّم الهين، وُتهوِّن الخطير، وُتؤخِّر الأول، وُتقدِّم الأخير، وتهمل الفرض وتحرص على النفل، وتكترث للصغائر، وتستهين بالكبائر، وتعترك من أجل المختَلف فيه، وتصمت عن تضييع المتَفق عليه .. كل هذا يجعل الأمة اليوم في أمَسِّ الحاجة - بل في أشد الضرورة - إلى " فقه الأولويات "، لُتبدئ فيه وُتعيد، وتناقش وتحاور، وتستوضح وتتبين، حتى يقتنع عقلها، ويطمئن قلبها، وتستضيء بصيرتها، وتتجه إرادتها بعد ذلك إلى عمل الخير وخير العمل.